التهذيب في التفسير (تفسير الحاكم)،

المحسن بن محمد الحاكم الجشمي (المتوفى: 494 هـ)

قوله تعالى: {الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير 1 ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم 2 ياأيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون 3 وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله ترجع الأمور 4 ياأيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور 5}

صفحة 5828 - الجزء 8

  ولما تقدم ذكر النعم بَيَّنَ أنه المنعم، فقال سبحانه: «مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ» أي: ما يعطيهم من نعمة، وقيل: هو المطر الذي هو سبب الرزق، وقيل: العافية، والأوجه أنه عام في كل نعمة «فَلَا مُمْسِكَ لَهَا» أي: لا يقدر أحد على أن يمنعها منه «وَمَا يُمْسِكْ» عنهم من الرزق، وقيل: من العذاب «فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ» القادر «الْحَكِيمُ» فيما يعطي ويمسك.

  ومتى قيل: هلا حملتم الرحمة على النبوة؟

  قلنا: نحملها على نِعَمِ الدين والدنيا، فتدخل فيه النبوة وغيرها.

  ثم أمر بشكر نعمه، فقال سبحانه: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ» خطاب للمكلفين «اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ» وذكر النعمة هو الشكر وتعظيم المنعم، والمراد بالنعم: جميع النعم؛ لأنه خلقهم أحياء لنفعهم، وخلق جميع الأشياء لهم، وقيل: أراد اذكروا نعم الله التي خصكم بها من بين الحيوانات كاستواء القامة، وحسن الصورة، وتعديل الجوارح، والعقل، والفهم، والنطق، وتسخير الحيوانات، والهداية وغيرها من النعم الظاهرة والباطنة.

  ومتى قيل: فأي فعله تعالى نعمة؟

  قلنا: كلها نعمة وإحسان؛ لأنه يفعل العرض، ولا يجوز عليه النفع والضر، فيفعله لنفع الغير، ولا نعمة إلا وهي دالة على المنعم؛ لأنها أجسام وأعراض لا يقدر عليها غيره تعالى، وتدل على أنه تعالى موجود، قادر، عالم، حي، منعم، حكيم.

  ثم بَيَّنَ أنه المتفرد بهذه النعم، فتحق له العبادة دون غيره، فقال سبحانه: «هَلْ مِنْ خَالِقٍ»؟ هذا استفهام، والمراد: تحقيق النفي، أي: لا خالق غيره يرزقكم، وقيل: هو استدعاء إلى التفكر، أي: تفكروا: هل أحد يقدر على خلق هذه النعم غيره كإنزال المطر، وإخراج النبات، وخلق الأجسام والأعراض؟ فإذا تفكرتم علمتم أنه الإله وحده «لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ» لا تحق الإلهية والعبادة إلا له.