التهذيب في التفسير (تفسير الحاكم)،

المحسن بن محمد الحاكم الجشمي (المتوفى: 494 هـ)

قوله تعالى: {والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير 11 وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون 12 يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير 13 إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير 14}

صفحة 5837 - الجزء 8

  وكيفيته ووضعه «وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ» أي: لا يملك حياة أحد «وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ» ذلك المعمر تتصرم أيامه، عن أبي مالك. وقيل: لا يحيا أحد مدة طويلة ولا مدة قصيرة إلا بعلمه، عن أبي مسلم. وقيل: «مَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ»: هو ما يعلمه الله أن فلانًا لو أطاع بقي إلى وقت كذا، وإن عصى ينقص عمره ولم يبق، فالنقصان على ثلاثة أوجه: إما أن يكون نعمة المنعم، أو يكون له بتصرم الأيام، أو يكون بشرط، وقيل: لا ينقص من عمره ساعة أو بعض ساعة، [لكن لا على معنى لا ينقص من عمره وساعة بعد كونه زائداً] حتى ينقص «إِلَّا فِي كِتَابٍ» قيل: معلوم لله محفوظ كتب الله ذلك لا يتقدم، ولا يتأخر، وقيل: كتبه الله في اللوح المحفوظ اعتبارًا لهم ومصلحة، ولملك الموت لمعرفة الآجال، وللحفظة ليعرفوا حين يزول التكليف. وعن سعيد بن جبير: يكتب في أول الكتاب عمره كذا سنة، ثم يكتب أسفل من ذلك: ذهب يوم، ذهب يومان، ذهب ثلاثة أيام «إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ». قيل: زيادة العمر ونقصانه، وقيل: إثباته في الكتاب، وقيل: جميع ما تقدم من الخلق من التراب والنطفة وغير ذلك «وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ» طيب بارد «سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ» قيل: شديد الملوحة، عن ابن عباس. وقيل: هو المر، عن الضحاك. أخذ من تأجج النار كأنه يحرق من شدة المرارة والملوحة، وقيل: الذي فيه مرارة، ولا يمتنع أن يريد الكل، وقيل: هذا مَثَلٌ، يعني: كما لا يستوي البحران كذلك عبادة الله وعبادة غيره.

  ثم بَيَّنَ أنهما مع التفاوت يستويان في أن كل واحد منتفع به، فقال سبحانه: «وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ» أي: من العذب والأجاج «لَحْمًا طَرِيًّا» وهو السمك «وَتَسْتَخْرِجُونَ» منه «حِلْيَةً» قيل: من المالح وهو اللؤلؤ، وقيل: من العذب، وقيل: فيه عيون عذبة منها يخرج اللؤلؤ «تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ» جوارٍ تشق الماء شقًّا «لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» أي: لتشكروا «يُولِجُ اللَّيلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيلِ» وهو إدخال أحدهما في الآخر، قيل: بالزيادة والنقصان، وقيل: بإذهاب أحدهما