التهذيب في التفسير (تفسير الحاكم)،

المحسن بن محمد الحاكم الجشمي (المتوفى: 494 هـ)

قوله تعالى: {قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا 5 فلم يزدهم دعائي إلا فرارا 6 وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا 7 ثم إني دعوتهم جهارا 8 ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا 9 فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا 10 يرسل السماء عليكم مدرارا 11 ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا 12}

صفحة 7096 - الجزء 10

  تقول: ما زادك عظتي إلا فسادًا «وَإنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ» أي: كلما دعوتهم إلى الإيمان لتغفر لهم بسببه «جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ» قيل: كراهية السماع، سدوا طريق السماع لئلا يسمعوا كلام نوح «وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ» أي: غطوا وجوههم بثيابهم لئلا يروا نوحًا، ولا يسمعوا صوته «وَأَصَرُّوا» أي: داموا على كفرهم «وَاسْتَكْبَرُوا» أي: تكبروا وأنفوا عن قبول الحق «اسْتِكْبَارًا» قيل: كان الرجل يذهب بابنه إلى نوح، ويقول: يا بني احذر هذا، لا يُغْوِيَنَّكَ؛ فإن أبي ذهب بي إليه، فحذرني كما حذرتك، عن قتادة. «ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا» أي: إعلانًا، عن قتادة. «ثُمَّ إنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ» الدعوة «وَأَسْرَرْتُ» قيل: دعاهم بكل وجه كان عنده أنه أقرب إلى الإجابة فلم يزدادوا إلا بعدًا، وقيل: دعوتهم مرة بالإعلان، ومرة بالإخفاء، ودعوت طائفة سرًّا، وطائفة جهرًا، وأسر لهَؤُلَاءِ، وأعلن لأولئك، ثم أعلن لهَؤُلَاءِ، وأسر لأولئك، كل ذلك حكي عن أبي مسلم.

  ومتى قيل: ما معنى قول نوح: فعلت وفعلت، والله عالم به؟

  قلنا: قيل: شكاية منهم ومن سوء صنيعهم، وما قابلوه به، وقيل: إظهارًا للعبودية، وبذل الجهد في الطاعة له، والدعاء إليه مع تمردهم.

  «فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ» أي: اطلبوا منه المغفرة بالإيمان «إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا» لمن تاب وآمن وعمل صالحًا، فإذا فعلتم ذلك «يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيكُمْ مِدْرَارًا» قيل: متتابعًا في وقت الحاجة، وقيل: ينزل منها الماء وكلما اعتصرته من شيء فهو دَرُّهُ «وَيُمْدِدْكُمْ» أي: يهب لكم. «بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ» بساتين «وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا» جارية، وقيل: كان الله تعالى ابتلى قوم نوح بالقحط، وعقم أرحام النساء أربعين عامًا، وقَلَّتْ ريعُ جِنَانِهِمْ، فضَمِنَ نوح لهم أنهم إن آمنوا أصلح الله أحوالهم، وروي أن عمر خرج للاستسقاء فما زاد على الاستغفار، وتلا هذه الآية، عن الشعبي.

  وروي أن رجلًا أتى الحسن فشكى إليه الجدوبة، فقال: استغفر الله، وأتاه آخر فشكا الفقر، فقال: استغفر الله، وأتاه آخر فقال: ادع الله أن يرزقني ولدًا، فقال: استغفر الله، فقيل له في ذلك، فتلا هذه الآية.