التهذيب في التفسير (تفسير الحاكم)،

المحسن بن محمد الحاكم الجشمي (المتوفى: 494 هـ)

قوله تعالى: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا 1 إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا 2 إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا 3 إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا 4 إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا 5 عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا 6}

صفحة 7203 - الجزء 10

  التقديم والتأخير، كأنه قيل: نبتليه لذلك جعلناه سميعًا بصيرًا، والسميع والبصير من كان على صفة يدرك المسموع والمبصر إذا وجد وهو كونه حيًّا لا آفة به «إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ» قيل: بَيَّنَّا له الطريق بنصب الأدلة، وأزحنا له العلة حتى يتمكن من معرفة الحق والباطل، وصلح الابتلاء، وقيل: طريق الخير والشر، عن قتادة.

  ومتى قيل: ما هذه الهداية؟

  قلنا: أدلة العقل والشرع عم بها جميع المكلفين، والسبيل: هو طريق معرفة الدين الذي يتوصل به إلى ثواب الأبد، ويلزم كل مكلف سلوكه.

  «إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا» لمّا بَيَّنَ أنه كلفهم بَيَّنَ حالهم بعد التكليف، وأشار إلى أن العبد مخير فإما مؤمن يشكر الله على نعمه، وإما كافِر يجحد نعمه. وقيل: بينا له الطريق إن شكر أو كفر، عن الفراء. ولا يجوز حمله على أنه خلقهم مؤمنًا وكافرًا؛ لأن الظاهر لا يقتضي ذلك؛ ولأنا بَيَّنَّا أن الإيمان والكفر فعل العبد.

  ثم بَيَّنَ ما أعد لكل واحد، فقال سبحانه: «إِنَّا أَعْتَدْنَا» أي: هيأنا، قيل: ماض أراد به المستقبل، أي: سنعد، ولما كان الموعود به كالواقع جاز أن يعبر عنه بعبارة الماضي، وقيل: أعد تلك الأيمان ليعذبهم بها، وفيه لطف للمكلفين. وقيل: أعتدنا بالإيجاب والحكم. «سَلاَسِلاً» قيل: كل سلسلة سبعون ذراعًا «وَأَغْلَالاً» في أعناقهم «وَسَعِيرًا» ناوًا موقودة. «إِنَّ الْأَبْرَارَ» يعني المطيعين لله المؤمنين، وقال الحسن: هم الَّذِينَ لا يؤذون الذَّرَّ، ولا يرضون بالشر «يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا» قيل: يمزج بالكافور ويختم بالمسك، عن مجاهد، وقتادة، وقيل: مزاجه كافور، يعني في بياضه ورائحته وبرودته، لا في طعمه، لكن يطيب طعمه. وقيل: مزاجها طعمها، عن عكرمة، أي: كالكافور، كقوله: {حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا}⁣[الكهف: ٩٦] أي: كالنار. وقيل: طيبت بالكافور والمسك والزنجبيل، عن ابن كيسان. وقيل: كافور اسم عين في الجنة، عن الفراء. وقيل: هذه أنموذج الآخرة، فأما ما يكون منها فأرفع وأطيب من أن يوصف «عَينًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ» أي: ذلك الشراب من عين يشرب بها عباد الله