التهذيب في التفسير (تفسير الحاكم)،

المحسن بن محمد الحاكم الجشمي (المتوفى: 494 هـ)

قوله تعالى: {لا أقسم بهذا البلد 1 وأنت حل بهذا البلد 2 ووالد وما ولد 3 لقد خلقنا الإنسان في كبد 4 أيحسب أن لن يقدر عليه أحد 5 يقول أهلكت مالا لبدا 6 أيحسب أن لم يره أحد 7 ألم نجعل له عينين 8 ولسانا وشفتين 9 وهديناه النجدين 10}

صفحة 7418 - الجزء 10

  أي: أن تسخر، قال سبحانه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤمِنُونَ}⁣[النساء: ٦٥] يعني فوربك، وقيل: (لا) رد لكلام سابق، ثم ابتدأ القسم، تقديره: ليس الأمر كما قالوا، بل أقسم «بِهَذَا الْبَلَدِ»، فأما أبو مسلم، فذكر فيه وجهين:

  أحدهما: أن لا أقسم بهذا البلد وعظيم حرمته لظهور حرمته، واستغنى المخاطبين عن الدلالة على عظيم محله، وما رفعه الله من درجته، وكان ذلك مشهورًا في العرب، ونطق به الكتاب، فقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا}⁣[العنكبوت؛ ٦٧] فلظهور الأمر فيه استغنى عن القسم، كأنه قيل: «لا أقسم»، فالأمر أظهر من أن يحتاج إلى القسم، والمراد به التعجيب أي: مع عظيم حرمة هذا البلد وما حوله وأمنهم أنت خائف على نفسك يستحلون منك ما هو حرام من غيرك؟!

  وثانيها: قال {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} إقسام معظم، وكيف أقسم به معظمًا وأنت مع عظيم محلك وما خصك الله به من الرسالة مضاع الحق، مستحل الحرمة، يعني الأعظم هذا البلد مع كفرهم بك، وإيذائهم إياك.

  وقيل: عظم أمر مكة حيث أقسم بها لكون الرسول بها حالًّا فيها، وبين أن تعظيمه لها لأجله، كما تسمى المدينة طيبة؛ لأنها طابت به حيًّا وميتًا، ثم اختلفوا، فقيل: القسم بها تعظيمًا لها، وقيل: برب مكة «بِهَذَا الْبَلَدِ» هو مكة بالاتفاق «وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ» قيل: حلال لك قَتْلُ مَنْ رأيت به، وذلك حين أمر بالقتال يوم فتح مكة وأحل له فدخلها كرهًا، وقيل: ساعة ولم تحل لأحد بعده، عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وعطاء، وابن زيد، والضحاك. قال عطاء: لم يحل إلا لنبيكم ساعة من نهار، وقيل: كان له أن يحل ويحرم، وقال: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن»، وروي عن النبي ÷ أنه خطب وقال: «إن الله تعالى حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام إلى أن تقوم الساعة، لم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار، فلا يعضد شوكها، ولا يقطع شجرها، ولا يختلى خلاها، ولا ينفر صيدها»، وقيل: «وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ» أي: مقيم فيه وهو مَحِلُّكَ، عن أبي علي. يعني إنما أقسم بهذا البلد بكونك فيها؛