باب القول في المياه
  قيل له: إن الغرض بالضرب والكي والقطع لا يتم إلا بها، فلم يكن بد من أن يؤمر بها، والغرض بمقله قد كان يتم بغير المقل؛ لأن الغرض به ما أخبرنا به ÷ أن في أحد جناحيه داءً وفي الآخر دواء، فكان يمكن أن يقول: اغمسوا بجناحيه فيما سقط فيه ليؤمن موته، فلما كان الغرض يتم به ولم يقله النبي ÷ بل قال: «امقلوه» مع جواز كونه مؤدياً إلى موته علم أن موته فيه وألا يموت بمنزلة واحدة في أنه لا ينجس ما يموت فيه.
  ومما يدل على ذلك: أنه قد ثبت بالاتفاق أن ذباب الباقلاء ودوده إذا ماتا في الباقلاء لم ينجس بهما، وكذلك دود الخل إذا مات في الخل لم ينجس به الخل؛ فوجب أن يكون سائر ما ذكرناه كذلك قياساً على ما أجمع عليه، والعلة أنه لا نفس له سائلة.
  ويمكن أن يقاس على ما ذكرنا بتعذر الاحتراز منه غالباً.
  ويمكن أيضاً أن يقاس على الجراد والحوت بالعلة(١) الأولى.
  فإن قاسوه على سائر الميتة رجحنا علتنا بشهادة(٢) الأصول، وذلك أنها تشهد بالمسامحة فيما يتعذر الاحتراز منه.
  فإن استدلوا بقوله تعالى: {حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةُ وَٱلدَّمُ}[المائدة: ٣] - فليس في ظاهرها لهم حجة، وذلك أن الكلام ليس في إباحة أكله.
  فإن استدلوا بقول الله تعالى: {قُل لَّآ أَجِدُ فِي مَآ أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٖ يَطۡعَمُهُۥٓ إِلَّآ أَن يَكُونَ مَيۡتَةً أَوۡ دَمٗا مَّسۡفُوحًا أَوۡ لَحۡمَ خِنزِيرٖ فَإِنَّهُۥ رِجۡسٌ}[الأنعام: ١٤٥]، فأخبر الله تعالى أن الميتة رجس.
(١) يلزم منه حل الأكل، والله أعلم.
(٢) شهادة الأصول والمراد بها ما فوق الواحد بأن توافق أصلين فصاعداً، والأخرى أصلاً واحداً، كتعليل الوضوء بأنه عبادة فتجب فيه النية كالصلاة والزكاة والصوم والحج، بخلاف تعليله بأنه طهارة بمائع؛ إذ لا أصل له إلا إزالة النجاسة. وفي شرح الجوهرة: يعني بالأصول: الظواهر النقلية متواترةً كانت أو آحاداً.