كتاب الحج
  هو المفتقر إلى الدليل. على أن التخيير إذا احتاج إلى إثبات وجود(١) بدل لم يقتضه لفظ الإيجاب يكون أولى بالافتقار إلى الدليل من التضييق الذي لا يقتضي إلا إيجاب ما أوجبه اللفظ.
  ومما يدل على أن وجوب الحج على التضييق: ما روي عن النبي ÷ أنه قال: «من مات ولم يحج مات ميتة جاهلية»، وفي بعض الأخبار: «فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً»(٢)، فثبت بذلك أنه يكون عاصياً إذا مات ولم يحج، فليس يخلو كونه عاصياً من أحد أمرين: إما أن يكون بالموت، وذلك لا يجوز؛ لأنه فعل الله في العبد، والعبد لا يجوز أن يصير(٣) عاصياً بفعل الله تعالى، أو يكون عاصياً بالتأخير، فلما لم يجز أن يصير عاصياً بالموت لم يبق إلا أن يكون عاصياً بالتأخير، وهذا يقتضي إيجابه.
  فإن قيل: روي عن النبي ÷ أنه أمر مناديه بأن ينادي: «ألا إن رسول الله حاج، فمن أراد الحج فليحج»، فعلقه بالإرادة، فدل ذلك على جواز التأخير.
  قيل له: لا يمتنع أن يكون المراد به من أراد الحج لوجوبه، وتعليقه بالإرادة لا يمنع تضيق الوجوب، كما لا يمنع الوجوب.
  فإن قيل: لو كان وجوب الحج مضيقاً لم يؤخره النبي ÷ إلى سنة عشر(٤)، وفي تأخيره وتأخير أصحابه إياه دليل على أن وجوبه على التخيير.
  قيل له: هذا لو ثبت أنه ÷ أخره لا لعذر، فأما إذا لم يثبت ذلك فلا يصح ما ادعيتموه؛ لأنا لا نمنع من جواز تأخيره لعذر، وليس علينا أن نعرف
(١) في (د): وجوب.
(٢) اللفظ الأول لم أجده، وهذا أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (٤/ ٥٤٦) والدارمي (٢/ ١١٢٣).
(٣) في (ب): يكون.
(٤) رواه مسلم (٢/ ٨٨٧) عن جابر بن عبدالله قال: إن رسول الله ÷ مكث تسع سنين لم يحج، ثم أذن في الناس في العاشرة أن رسول الله حاج. ورواه أبو داود (٢/ ٤٨).