باب القول في أدب القاضي
  يكون بان له بالبينة أو الإقرار يوجب أن يلزمه إمضاء الحكم بعلمه؛ لأنه إذا علمه فقد بان له، وعلى هذا الإطلاق لا يجب أن يفصل بين ما علمه قبل القضاء أو بعد القضاء، وقد اختلف في ذلك، فذهب أبو حنيفة إلى أن الحاكم يحكم بعلمه إذا علم بعد القضاء وحيث هو قاض فيه، ولا يحكم بعلمه قبل القضاء أو حيث لا ينفذ فيه حكمه. وقال أبو يوسف ومحمد: يحكم بعلمه على أي وجه حصل [قبل القضاء وبعده، وهو يقتضيه(١) إطلاق يحيى #. وقال مالك: لا يحكم بعلمه على وجه](٢) من الوجوه. وحكي أنه للشافعي على قولين، وقرأت فيما علق ابن أبي هريرة أن أصح القولين هو القول بأنه يحكم بعلمه، ولم يشترط أن يكون علم قبل القضاء أو بعده.
  ويدل على ذلك: قول الله تعالى: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ اَ۬لْحَقِّۖ}[المائدة: ٥٠]، فإذا علم الشيء فعلمه به حق قد جاءه، فيجب أن يحكم به. وقال تعالى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِۖ}[المائدة: ٤٤]، ولا قسط أوضح من أن يعلم أن المحكوم له محق. وقال: {فَاحْكُم بَيْنَ اَ۬لنَّاسِ بِالْحَقِّ}[ص: ٢٥]، فمتى علم أن الحق لإنسان لزمه الحكم به. ولا خلاف أنه يحكم بالظن الذي يحصل له عند شهادة الشاهدين، فأولى أن يحكم بعلمه الذي علمه بالمشاهدة؛ لأن العلم أقوى من الظن. ولا خلاف أن لغير الحاكم أن يمنع الظالم من ظلمه إذا عرف ذلك وتحققه على سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأولى أن يجوز للحاكم أن يحكم بعلمه. وأيضاً لا خلاف أنه جائز الاقتصار على حاكم واحد [في إنفاذ الأحكام](٣)، فدل ذلك على أن قوله فيه مقبول، ألا ترى أن الشاهد [الواحد] لما لم يكن قوله مقبولاً وحده لم يكن بد من انضمام شاهد
(١) في (هـ): مقتضى.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ب، د).
(٣) ما بين المعقوفين من شرح مختصر الطحاوي (٨/ ٥١).