كتاب الصيد والذبائح
  فإن قيل: المراد بهذه الأخبار هو القدح الأخير الذي يقع السكر عقيب تناوله؛ لأن ما تقدمه مما لا يقع به السكر لا يسمى مسكراً، كما لا يقال لقليل الماء: مروٍ، ويسير الطعام: مشبع.
  قيل له: هذا التأويل ممتنع فيما روي من قوله: «ما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام، والحسوة منه حرام»؛ لأنه ÷ علق الإسكار بالجميع بقوله: «ما أسكر الفرق منه»، فبان أنه أراد به الجنس المسكر دون ما يحصل عقيبه السكر؛ لأن الفرق لا يمكن تناوله دفعة واحدة، وإنما يتناول شيئاً بعد شيء، والسكر لا يحصل إلا مع الأول(١)، على أن الجميع هو المسكر في التحقيق دون الشربة الأخيرة؛ لأنا نعلم أن لكل بعض منه تأثيراً في فساد العقل، ألا ترى أن القدح الأخير لو شربه أولاً لم يسكره، وإنما يتم السكر عنده لتقدم سائر الأقداح، ولما يكون قد حصل من تأثير ما اجتمع؟ ألا ترى أن الإنسان يقول: أشبعني هذا الرغيف، ولا يقول: أشبعتني اللقمة الأخيرة، فالمشبع هو جنس الطعام، والمروي هو جنس الماء؟ فكذلك المسكر هو جنس الشراب، فيجب أن يكون التحريم متعلقاً به. على أن قوله: «ما أسكر كثيره» الهاء راجع إلى الجنس، فكذلك قوله: «فقليله حرام» الهاء راجع إلى الجنس، وتقديره أن الجنس الذي أسكر الكثير منه فالقليل منه حرام، فيقع ذلك على كل جزء منه شربه أولاً وآخراً، فهذا هو ظاهر هذه الألفاظ. على أن ما ذكروه وإن كان محتملاً فما قلناه أولى لوجوه نذكرها.
  فإن قيل: روي عن ابن عمر قال: شهدت رسول الله ÷ وقد أتي بشراب فأدناه إلى فيه فقطب، فرده، فقال رجل: يا رسول الله، أحرام هو؟ فرد الشراب، ثم دعا بماء فصبه عليه، ثم قال: «إذا اغتلمت(٢) هذه الأسقية عليكم فاكسروا
(١) إذ لو لم يشرب الأول ما سكر بالآخر. (من هامش هـ).
(٢) أي: جاوزت حدها الذي لا يسكر إلى حدها الذي يسكر. (نهاية).