تاج العروس من جواهر القاموس،

مرتضى الزبيدي (المتوفى: 1205 هـ)

[دبك]:

صفحة 554 - الجزء 13

  شَمِرٌ عن اللَّيْثِ قالَ: ولم أَسْمَعْه لغيرِه، وبه أَوَّل قَوْله تعالَى: {بلْ أَدْرَكَ عِلْمُهم}⁣(⁣١) أي فَنِيَ عِلْمُهم في الآخِرَةِ⁣(⁣٢). قالَ الأَزْهَرِيُّ: وهذا غيرُ صحيحٍ في لغَةِ العَرَبِ⁣(⁣٣)، وما عَلِمْتُ أَحَداً قالَ: أَدْرك الشيءُ إذا فَنِيَ فلا يعرَّجُ على هذا القَوْلِ، ولكنْ يقالُ: أَدْرَكَتِ الثِّمارُ إذا بَلَغَتْ إناهَا وانْتَهَى نُضْجها.

  قُلْتُ: وهذا الذي أَنْكَرَه الأَزْهَريُّ على اللّيْثِ فقَدْ أَثْبَتَه غيرُ واحِدٍ من الأَئِمَّةِ وكَلَامُ العَرَبِ لا يَأْبَاهُ فإنَّ إنْتِهاءَ كلَّ شيْءٍ بحسبِه فإذا قالُوا: أَدْرَكَ الدَّقيقُ فبأَيِّ شيءٍ يفَسَّرُ أَيقالُ إنَّه مِثْلُ إدرَاكِ الثّمار والقِدْر وإنَّما يقالُ انْتَهَى إلى آخِرِه ففَنِيَ.

  قالَ ابنُ جني في الشَّواذِ: أَدْرَكْت الرَّجُلَ وادَّرَكْته وادَّرَك الشيءُ إذا تَتَابَعَ ففَنِيَ وبه فسَّر قَوْله تعالَى: {إِنّا لَمُدْرَكُونَ}⁣(⁣٤). وأَيْضاً فإنَّ الثِّمارَ إذا أَدْرَكَتْ فَقَد عُرِّضَتْ للفَناءِ وكذلِكَ القدر وكلُّ شيءٍ. انْتَهَى إلى حدِّهِ فالفَنَاءُ من لوازِمِ معْنَى الإِدْرَاكِ، ويُؤَيِّد ذلِكَ تَفْسِيرُ الحَسَنِ للآيةِ على ما يَأْتِي فتأَمَّلْ.

  وقَوْلُه تعالَى: {حَتّى إِذَا ادّارَكُوا} فِيها جَمِيعاً⁣(⁣٥) أصلُهُ تَدَارَكوا فأُدْغِمَتْ التاءُ في الدَّالِ واجْتُلِبَت الأَلِفُ ليَسْلَم السكُون. وقَوْلُه تعَالَى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيّانَ يُبْعَثُونَ ٦٥ بَلِ ادّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ}⁣(⁣٦) قال الحَسَنُ فيما رُوِيَ عنه: أي جَهِلوا عِلْمَها ولا عِلْمَ عندَهُم من أمْرِها كذا في النسخِ وفي بعضِ الأُصُولِ: في أمْرِها. قال ابنُ جني في المحتسب: مَعْناه أَسْرَع وخَفُّ فلم يثْبتْ ولم تَطْمئِنّ لليَقِين به قَدَم.

  قُلْتُ: فهذا التَّفْسِير تأْيِيدٌ نَقَلَه شَمِرٌ عن اللَّيْثِ. قالَ الأَزْهَرِيُّ: قَرَأَ شُعْبَة⁣(⁣٧) ونافِعٌ: «بَلِ ادّارَكَ»، وقَرَأَ أَبُو عَمرو: بل أَدْرَك، وهي قرَاءَةُ مجاهِدٍ وأَبي جَعْفَرٍ المَدَنيّ، ورُوِيَ عن ابنِ عَبَّاس أَنَّه قَرَأ: «بلى⁣(⁣٨) أَأَدْرَك عِلْمُهم»، يُسْتَفهم ولا يُشَدَّد، فأَمَّا مَنْ قَرَأَ {بَلِ ادّارَكَ} فإنَّ الفَرَّاءَ قالَ: معْنَاهُ لغَةً في تَدَارَك أي تَتَابَعَ عِلْمُهُم في الآخِرَةِ، يُرِيدُ بعلمِ الآخِرَةِ تَكُون أَوْ لا تَكُون، ولذلِكَ قالَ: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ}، قالَ: وهي في قَرَاءَةِ أَبيٍّ أَم تَدَارَكَ، والعَرَبُ تجْعَلُ بَلْ مَكَانَ أَمْ، وأَمْ مكانَ بَلْ إذا كانَ أَوَّلَ الكَلِمَةِ اسْتِفْهامٌ مِثْل قَوْلِ الشاعِرِ:

  فو الَّله ما أَدْرِي أَسَلْمَى تَغَوَّلَتْ ... أَم البُومُ أَمْ كلٌّ إليَّ حَبِيبُ⁣(⁣٩)

  مَعْنَى أَمْ بَلْ؛ وقالَ أَبُو مَعَاذٍ النحويُّ: ومَنْ قَرَأَ بَلْ أَدْرَكَ، و {بَلِ ادّارَكَ} فمعْنَاهُما واحِدٌ، يقولُ: هُم عُلَمَاءُ في الآخِرَةِ كقَوْلِه تعالَى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا}⁣(⁣١٠)، ونَحْو ذلِكَ. قالَ السَّدِيُّ في تفْسِيرِه، قالَ اجْتَمَعَ عِلْمُهُم في الآخِرةِ ومعْنَاهَا عنْدَه⁣(⁣١١) أي عَلِمُوا في الآخِرَةِ أَنَّ الذي كانُوا يُوعَدُون به حَقٌّ وأَنْشَدَ للأَخْطَلِ:

  وأَدْرَكَ عِلْمي في سُوَاءَة أَنَّها ... تقيمُ على الأَوْتار والمَشْرَبِ الكَدْرِ⁣(⁣١٢)

  أي أَحَاطَ عِلْمِي بها أَنَّها كذلِكَ. قالَ: والقَوْلُ في تفْسِيرِ أَدْرَكَ وادّارَكَ ما قالَ السَّدِيُّ وذَهَبَ إليه أَبُو معاذٍ النحويُّ وأَبُو سَعِيْدٍ، والذي قالهُ الفَرَّاءُ في مَعْنَى تَدَارَك أي تَتَابَعَ عِلْمُهُم في الآخِرَةِ أَنَّها تكُونُ أَوْلا تكُونُ ليسَ بالبَيِّنِ، إنَّما المعْنَى أَنَّه تَتَابَع عِلْمُهُم في الآخِرَةِ وتَواطَأَ حِيْن حَقَّت القيامَةُ وخَسِرُوا⁣(⁣١٣) بَانَ لهم صِدْقُ ما وُعِدُوا حِيْن لا ينْفَعُهم ذلِكَ العِلْمُ، ثم قالَ جلَّ وعزَّ: بَلْ هُمُ اليَوْمَ في شكٍّ من عِلْمِ⁣(⁣١٤) الآخِرَةِ {بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ} أي جَاهِلُون، والشَّك في أَمْرِ الآخِرَةِ كفرٌ. وقالَ شَمِرٌ: هذه الكَلِمَةُ فيها أَشْيَاء، وذلِكَ أَنَّا وجَدْنا الفِعْلَ اللازِمَ والمُتَعَدي فيها في أَفْعَلَ وتَفَاعَلَ وافْتَعَل


(١) من الآية ٦٦ من سورة النمل، والقراءة المشهورة {بَلِ ادّارَكَ عِلْمُهُمْ} والمثبت بالأصل هي قراءة أبي عمرو ومجاهد وأبي جعفر المدني.

(٢) يعني في معرفة الآخرة، كما في اللسان.

(٣) في التهذيب: وهذا غير صحيح ولا محفوظ عن العرب.

(٤) من الآية ٦١ من سورة الشعراء.

(٥) سورة الأعراف الآية ٣٨.

(٦) الآيتان ٦٥ و ٦٦ من سورة النمل.

(٧) في التهذيب واللسان: شيبة.

(٨) التهذيب واللسان: بلى.

(٩) البيت لأبي ذؤيب الهذلي كما بحواشي التهذيب، وهو في اللسان والتهذيب بدون نسبة وانظر روايته فيهما.

(١٠) سورة مريم الآية ٣٨.

(١١) أي عند أبي سعيد الضرير، وهو ما يفهم من عبارة التهذيب، وليس من كلام السدي، فتتمة قوله: «اجتمع علمهم يوم القيامة فلم يشكوا ولم يختلفوا» وسيشير إلى أبي سعيد قريباً.

(١٢) ديوانه ص ١٣٣ والتهذيب واللسان.

(١٣) الأصل واللسان وفي التهذيب: وحُشِروا.

(١٤) في التهذيب: «أمر الآخرة».