تاج العروس من جواهر القاموس،

مرتضى الزبيدي (المتوفى: 1205 هـ)

فصل الكاف مع النون

صفحة 491 - الجزء 18

  هذه الآيَة قالَ: أَي أَنْتُم خَيْر أُمَّةٍ، قالَ: ويقالُ مَعْناه {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} في عِلْمِ اللهِ.

  وعليه خَرَّجَ بعضٌ قَوْلَه تعالى: {وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً}⁣(⁣١)، لأنَّ كانَ بمَنْزلَةِ ما في الحالِ، والمعْنَى: واللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ إلَّا أَنْ كَوْنَ الماضِي بمعْنَى الحالِ قَلِيلٌ. واحْتَجّ صاحِبُ هذا القَوْلِ بقَوْلِهم: غَفَرَ اللهُ لفلانٍ، بمعْنَى لِيَغْفِر اللهُ، فلمَّا كانَ في الحالِ دَليلٌ على الاسْتِقْبالِ وَقَعَ الماضِي مُؤَدِّياً عنها اسْتِخْفافاً لأنَّ اخْتِلافَ أَلْفاظِ الأَفْعالِ إنَّما وَقَعَ لاخْتِلافِ الأَوْقاتِ؛ ومنه قَوْلُ أَبي جُنْدبٍ الهُذَليِّ:

  وكنتُ إذا جارِي دعا لمَضُوفةٍ ... أُشَمِّرُ حتى يَنْصُفَ الساقَ مِئْزَرِي⁣(⁣٢)

  وإنَّما يخبر عن حالِهِ لا عمَّا مَضَى مِن فِعْلِه.

  وكَيْوانُ زُحَلُ مَمْنُوعٌ مِن الصَّرْفِ، والقَوْلُ فيه كالقَوْلِ في خَيْوانَ، والمانِعُ له مِن الصَّرْفِ العُجْمة، كما أنَّ المانِعَ لخَيْوان مِن الصَّرفِ إنَّما هو التّأْنِيثُ وإرادَةُ البُقْعَة أَو الأَرْض أَو القَرْجيَةِ، وسَيَأْتي.

  وسَمْعُ الكِيانِ: كتابٌ للعَجَمِ.

  قالَ ابنُ بَرِّي: هو بمَعْنَى سَماعِ الكِيانِ، وهو كتابٌ أَلَّفَه أَرَسْطو.

  والاسْتِكانَةُ: الخُضوعُ والذّلُّ. جَعَلَهُ بعضُهم اسْتَفْعَلَ من الكَوْنِ، وجَعَلَهُ أَبو عليِّ مِنَ الكَيْنِ وهو الأشْبَهُ.

  وقالَ ابنُ الأنْبارِي: فيه قَوْلان: أَحَدُهما: أَنَّه مِن السَّكِينَةِ وأَصْلُه اسْتَكَن افْتَعَلَ من سَكَنَ، فمُدَّتْ فتحةُ الكافِ بأَلفٍ؛ والثاني: أَنَّه اسْتِفْعالٌ من كانَ يكونُ.

  والمَكانَةُ: المَنْزِلَةُ؛ نَقَلَهُ الجَوْهرِيُّ.

  وتقدَّمَ كَلامُ ابنُ بَرِّي قَرِيباً في الرَّدِّ عليه.

  وقال الفناري في شرْحِ دِيباجَةِ المُطوَّلِ: إنَّ مِنَ العَجَبِ إيرادَ الجوْهرِيِّ المَكانَة في فصْلِ الكافِ مِن بابِ النونِ مع أَصالَةِ مِيمِها.

  والتَّكَوُّنُ: التَّحَرُّكُ؛ عن ابنِ الأَعْرابيِّ، قالَ: وتَقُولُ العَرَبُ للبَغِيضِ: لا كانَ ولا تَكَوَّنَ، أَي لا خُلِقَ ولا تَحَرَّكَ، أَي ماتَ.

  * وممَّا يُسْتدركُ عليه:

  الكَوْنُ: واحِدُ الأكْوانِ مَصْدَرٌ بمعْنَى المَفْعول.

  ولم يَكُ أَصْلُه يكونُ حُذِفَتِ الواوُ لالْتِقاءِ الساكِنَيْنِ، فلمَّا كَثُر اسْتِعمالُه حَذَفُوا النونَ تَخْفيفاً، فإذا تحرَّكَتْ أَثْبتُوها، قالوا: لم يَكُنِ الرَّجُلُ؛ وأَجازَ يونُسُ حذْفَها مع الحرَكَةِ، وأَنْشَدَ:

  إذا لم تَكُ الحاجاتُ من همَّةِ الفَتى ... فليس بمُغْنٍ عنكَ عَقْدُ الرَّتائِمِ⁣(⁣٣)

  ومِثْلُه ما حكَاه قُطْرُب: أنَّ يونُسَ أَجازَ لم يَكُ الرَّجُل مُنْطلقاً؛ وأَنْشَدَ للحَسَنِ بنِ عُرْفُطة:

  لم يَكُ لحق سوى أَنْ هَاجَهُ ... رَسْمُ دارٍ قد تَعَفَّى بالسَّرَرْ⁣(⁣٤)

  وحَكَى سِيبَوَيْه: أَنا أَعْرِفُكَ مُذْ كُنْتَ، أَي مُذْ خُلِقْتَ، والسَّكَوُّنُ؛ الحُدُوثُ، وهو مُطاوعُ كَوَّنَه اللهُ تعالى؛ وفي الحدِيثِ: «فإنَّ الشَّيْطانَ لا يَتَكَوَّنُني»؛ وفي رِوايَةٍ: لا يَتَكَوَّنُ على⁣(⁣٥) صُورَتِي.

  وحَكَى سِيبَوَيْه في جَمْع مَكانٍ أَمْكُنٌ، وهذا زائِدٌ في الدَّلالَةِ على أَنَّ وَزْنَ الكَلِمةِ فَعَال دُونَ مَفْعَل.

  وحَكَى الأَخْفَش في كتابِ القَوافِي: ويقُولُونَ أَزَيْداً كُنْتَ له.

  قالَ ابنُ جنِّي: إن سُمِعَ عنهم ذلِكَ ففيه دَلالَةٌ على جَوَازِ تقْدِيمِ خَبَر كانَ عليها.


(١) النساء، الآية ٩٦.

(٢) شحر أشعار الهذليين ١/ ٣٥٨ واللسان والصحاح.

(٣) اللسان والصحاح.

(٤) اللسان.

(٥) الأصل واللسان، وفي النهاية: «في صورتي».