تاج العروس من جواهر القاموس،

مرتضى الزبيدي (المتوفى: 1205 هـ)

[من]:

صفحة 553 - الجزء 18

  كَلَّمَ اللهُ}⁣(⁣١)، وعَلامَتُها إمْكانُ سَدَّ بَعْض مَسَدّها، كقِراءَةِ ابنِ مَسْعودٍ، رضِيَ اللهُ تعالى عنه: حتى تُنْفِقُوا بعضَ ما تُحِبُّونَ⁣(⁣٢)؛ ومنه قَوْلُه تعالى: {رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ}⁣(⁣٣)، فمن هنا اقْتَضَى التَّبْعِيض لأنَّه كانَ تركَ فيه بعضَ ذُرِّيَّتِه.

  والثَّالِثُ: لبَيانِ الجِنْسِ، وكَثيراً ما تَقَعُ بَعْدَ ما ومَهْما وهُما بها أَوْلَى لإفْراطِ إبْهامِهما، كقَوْلِه تعالَى: {ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها}⁣(⁣٤)، وقوْلُه تعالى: {ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ}⁣(⁣٥)، وقَوْلُه تعالى: {مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ}⁣(⁣٦)؛ ومِن وُقُوعِها بَعْد غَيْرهما قَوْلُه تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ}⁣(⁣٧)، ونَحْو: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ}⁣(⁣٨).

  والفَرْقُ بينَ مِن للتَّبْعِيض ومِن للتَّبْيِين أَنَّه كانَ للتَّبْعِيضِ يكونُ ما بَعْدَه أَكْثَر ممَّا قَبْلَه كقَوْلِه تعالى: {وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ}⁣(⁣٩)، وإنْ كانَ للتَّبْيِين كانَ ما قَبْلَه أكْثَر ممَّا بَعْده كقَوْلِه تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ} وأَنْكَرَ مَجِيءَ مِن لبَيانِ الجِنْسِ قَوْمٌ وقالوا: هي في {مِنْ ذَهَبٍ} و {مِنْ سُنْدُسٍ} للتَّبْعِيضِ، وفي {مِنَ الْأَوْثانِ} للابْتِداءِ، والمعْنَى فاجْتَنِبُوا مِنَ الأَوْثانِ الرِّجْسَ وهو عِبادَتُها وفيه تَكَلُّفٌ، وقَوْلُه تعالَى: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}⁣(⁣١٠)، للتَّبْيِينِ لا للتَّبْعِيضِ كما زَعَمَ بعضُ الزَّنادِقَةِ الطَّاعِنينَ في بعضِ الصَّحابَةِ، والمعْنَى الذين هُم هؤلاء؛ ومنه قَوْلُه تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ}⁣(⁣١١)، وكُلّهم مُحْسِن مُتَّقّ، وقوْلُه: {وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ}⁣(⁣١٢)، والمقول فيهم ذلِكَ كُلّهم كُفَّار.

  * قُلْتُ: ومنه قَوْلُه تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ}⁣(⁣١٣)، فإن مِنْ هنا للجِنْسِ، أَي كُلُوا الشَّيءَ الذي هو مَهْرٌ.

  وقالَ الرَّاغِبُ: وتكونُ لاسْتِغراقِ الجِنْسِ في النَّفْي والاسْتِفْهامِ نَحْو: {فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ}⁣(⁣١٤).

  * قُلْتُ: وقد جُعِلَتْ هذه المَعاني الثَّلاثَةُ في آيةٍ واحِدَةٍ وهو قَوْلُه تعالى: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ}⁣(⁣١٥)، فالأُوْلى لابْتِداءِ الغايَةِ والثانِيَةُ للتَّبْعِيضِ، والثالِثَةُ للبَيانِ.

  وقالَ الرَّاغِبُ: تَقْديرُه: يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ جِبالاً، فمِنْ الأُوْلى لابْتِداءِ الغايَةِ⁣(⁣١٦)، والثانِيَةُ ظَرْفٌ في مَوْضِع المَفْعولِ، والثالِثَةُ للتَّبْعِيضِ كقَوْلِكَ عِنْدَه جِبالٌ مِن مالٍ، وقيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ حملَ على الظَّرْفِ على أَنَّه مُنْزَلٌ عنه، وقوْلُه: {مِنْ بَرَدٍ} نصب أي يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فيها بَرَداً؛ وقيلَ: مَوْضِعُ مِنْ في قوْلِه: {مِنْ بَرَدٍ} رَفْع، و {مِنْ جِبالٍ} نَصْب على أنَّه مَفْعولٌ به كأَنَّه في التَّقْدِيرِ ويُنزِّلُ مِنَ السَّماءِ جِبالاً فيها بَرَد، وتكونُ الجِبالُ على هذا تَعْظِيماً وتَكْثِيراً لمَا نَزَلَ مِنَ السَّماءِ.

  و الَّرابعُ: بمعْنَى التَّعْلِيلِ كقَوْلِه تعالَى: {ممَّا خَطاياهُم أُغْرِقُوا}⁣(⁣١٧)، وقَوْلُه:

  وذلكَ من نبإ جاءَني⁣(⁣١٨)


(١) البقرة، الآية ٢٥٢.

(٢) آل عمران، الآية ٩٢.

(٣) إبراهيم، الآية ٣٧.

(٤) فاطر، الآية ٢.

(٥) البقرة، الآية ١٠٦.

(٦) الأعراف، الآية ١٣١.

(٧) الكهف، الآية ٣١.

(٨) الحج، الآية ٣٠.

(٩) غافر، الآية ٢٨.

(١٠) الفتح، الآية ٢٩.

(١١) آل عمران، الآية ١٧٢.

(١٢) المائدة، الآية ٧٤.

(١٣) النساء، الآية ٤.

(١٤) الحاقة، الآية ٤٧.

(١٥) النور، الآية ٤٣.

(١٦) عبارة المفردات: فمن الأولى ظرفٌ، والثانية في موضع المفعول والثالثة للتبيين.

(*) كذا بالاصل، والواو ليست من القاموس.

(١٧) نوح، الآية ٢٥ والقراءة: {خَطِيئاتِهِمْ}.

(١٨) تمامه: «وخبرته عن أبي الأسود» ونسبه بحاشية مغني اللبيب لامرئ القيس.