فصل الهمزة مع الصاد
  وفي كَلام ابن أَبي شَرِيفٍ وجَمَاعَةٍ أَنَّهَا تُقَالُ بَيْنَ الباءِ والفَاءِ، وقالَ جَمَاعَةٌ: إِنَّهَا تُقَالُ بالبَاءِ الفَارِسيَّةِ، قال شَيْخُنَا: قُلْتُ: وهُوَ المُرَادُ بأَنَّهَا بَيْنَ الباءِ والفَاءِ. وتَعَقَّبُوه بنَاءً على مَا بَنَوْا عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ المُرَادَ الفُرْسَانُ، والأَسْبُ حينَئِذٍ هُوَ الخَيْلُ بالبَاءِ العَرَبيَّةِ، ولكِنْ بالسِّينِ لا الصّادِ، ففِيهِ نَظَرٌ منْ هذا الوَجْه، فَتَأَمَّلْ: انْتَهَى.
  قُلْتُ: ما ذَكَرَه ابنُ أَبي شَرِيفٍ: وقال جَمَاعَةٌ مع ما قَبْلَهُ قولٌ واحِدٌ، كَمَا نَبَّه عَلَيْه شيخُنَا عَلَى الصَّوَابِ وأَمّا قَوْلُ شَيْخِنَا في التَّعَقُّبِ عَلَيْه: والأَسْبُ حينَئذٍ، إِلخ، فَفِيه نَظَرٌ؛ لأَنَّ الأَسْبَ اسْمٌ بمَعْنَى الفَرَسِ، بالبَاءِ العَجَمِيَّة لا العَرَبِيّة، وتَعْبِيرُه بالخَيْلِ يَدُلُّ عَلَى أَنّه اسْمُ جَمْعٍ، ولَيْسَ كَذلِكَ، وفي عِبَارَةِ السُّهَيْلِيّ: وأَصْبَه، بالعَرَبِيَّةِ: الفَرَسُ، كما تَقَدَّم، فظَهَرَ بذلك أَنَّهُ يُقَال أَيْضاً بالصَادِ، وكَأَنَّهُ عنْدَ التَّعْرِيبِ، فتَأَمَّلْ.
  وأَصْلُهَا إِسْبَاهانْ جَمْعُ إِسْباه، بالكَسْرِ(١)، وهَان عَلامَةُ الجَمْعِ عِنْدَهُم: أَي الأَجْنَادُ، لأَنَّهُم كانُوا سُكّانَهَا، وقال ابنُ دُرَيْدٍ: أَصْبَهَان اسْمٌ مُرَكَّبٌ؛ لأَنّ الأَصْبَ البَلَدُ بلسَانِ الفُرْسِ، وهان اسمُ الفارِسِ، فكأَنَّهُ يقال(٢) بِلادُ الفُرْسانِ، وقَدْ رَدّ عَلَيْهِ ياقُوت، فقَالَ: الصَّوَابُ أَنَّ الأَصْبَ بلُغَةِ الفُرْسِ هو الفَرَسُ، وهان كَأَنَّهُ دَلِيلُ الجَمْعِ، فمَعْنَاهُ الفُرْسَانُ، والأَصْبَهيُّ: الفَارِسُ.
  قُلْتُ: وهذا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْه ياقُوت، هُوَ ما يُعْطِيهِ حَقُّ الَّلفْظِ، وقَدْ أَصَابَ المَرْمَى وما أَخْطَأَ، أَوْ لِأَنَّهُمْ كانُوا سُكّانَهَا، أَي الأَجْنَاد، فسُمِّيَتْ بهم، بحَذْفِ مُضَافٍ، أَي مَوْضِع الأَجْنَادِ، كَمَا تَقَدَّم في قَوْلِ السُّهَيْلِيِّ.
  قُلْتُ: والمُرَادُ بتلْكَ الأَجْنَاد هيَ الَّتي خَرَجَتْ عَلَى الضَّحّاكِ وأَجَابَتْهُم النّاسُ حَتَّى أَزالُوا، وأَخْرَجُوا أَفْريدُونَ جَدَّ بَني سَاسَانِ مِنْ مَكْمَنِه، وجَعَلُوه مَلِكاً، وتَوَّجُوه، في قصَّةٍ طَويلَةٍ، ذَكَرَهَا أَرْبَابُ التَّوَارِيخِ، ذاتِ تَهَاوِيلَ وخُرَافَاتٍ، ولِذَا لَمْ يَكُنْ يَحْمِلُ لوَاءَ مُلوكِ الفُرْس مِنْ آلِ سَاسَانَ إِلاَّ أَهْلُ أَصْبَهَانَ، أَشَارَ إِلَيْه ياقُوت.
  أَوْ لِأَنَّهُم لَمّا دَعَاهُمْ نُمْرُوذُ إِلَى مُحَارَبَةِ مَنْ في السّمَاءِ، في قصّةٍ ذَكَرَهَا أَهْلُ التَّوَارِيخِ، كَتَبُوا في جَوَابِه: إِسْبَاه آنْ نَه كِهْ با خُدا جَنْكْ كُنَد(٣) أَيْ هذا الجُنْد ليسَ مِمَّنْ يُحَارِبُ الله، فآنْ، مَمْدُوداً: اسْمُ الإِشَارَة، ونَهْ بالفَتْحِ: عَلَامَةُ النّفْيِ، وكِهْ بالكَسْرِ: بمَعْنَى الَّذِي، وبَا خُدَا، أَي مَعَ الله، وخُدَا بالضّمِّ اسمُ الله، وأَصْلُه خُودَاي، ويَعْنُون بذلِكَ وَاجِبَ الوُجُودِ، وجَنْك، بالفَتْح: الحْرْبُ، وكُنَد، بالضّمِّ وفتحِ النّون: تأْكيدٌ لِمَعْنَى الفِعْلِ، ويُعَبِّرُ بِهِ عن المُفْرَد، أَي لَيْسَ مِمّن، ولَوْ لَا ذلِكَ لَكَانَ حَقُّه كُنَنْد، بنُونَيْنِ، نظراً إِلَى لَفْظ أَسْباهان بمَعْنَى الأَجْنَادِ، فتَأَمَّلْ. ثُمَّ إِنَّ هذا القَوْلَ الَّذِي ذَكَرَه المُصَنِّفُ نَقَلَه ابنُ حَمْزَةَ، وحَكَاه ياقُوت، وقَالَ: قد لَهِجَتْ به العَوَامُّ، ونَصُّ ابنِ حَمْزَةَ: أَصْلُه أَسْبَاهْ آن، أَيْ هُمْ جُنْدُ الله، قالَ يَاقُوت: وما أُشَبِّهُ قَوْلَهُ هذا إِلاَّ بِاشْتِقَاقِ عَبْدِ الأَعْلَى القاصّ حِينَ قِيلَ لَهُ: لِمَ سُمِّيَ العُصْفُور عُصْفُوراً؟ قالَ: لِأَنَّهُ عَصَى وفَرّ، قِيلَ لَهُ: فالطَّفَيْشَلُ؟ قالَ: لأَنّه طَفَا وشَالَ.
  أَوْ مِنْ أَصْب، هكذا في سائرِ النُّسَخِ، وقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّه بمَعْنَى الفَرَسِ، وبالسِّينِ أَكْثَرُ في كَلَامِهِمْ، ثم قالَ شَيْخُنَا: فعِنْدِي أَنَّه يُسَلَّمُ عَلَى ما نَقَلُوه، ويَجْعَلُ كُلّه لَفْظاً وَاحِداً، ويُذْكَرُ في البَابِ الَّذِي يَكُونُ آخِرَ حَرْفٍ منه، والله أَعْلَمُ، ومَا عَدَاه فكُلّه رَجْمٌ بالغَيْب، ووُقُوع في عَيْب. انْتَهَى.
  وقَدْ ذَكَرَ حَمْزَةُ بنُ الحَسَنِ في اشْتِقَاقِ هذه الكَلِمَةِ وَجْهاً حَسَناً، وهُوَ أَنّه اسْمٌ مُشْتَقٌّ من الجُنْدِيَّة، وذلِكَ أَنَّ لَفْظَ أَصْبَهَانَ إِذا رُدَّ إِلَى اسْمِه بالفَارِسِيّةِ كَان: أَسْبَاهان، وهِيَ جَمْعُ أَسْبَاه، وأَسْبَاه: اسْمٌ لِلْجُنْدِ والكَلْبِ، وكَذلِكَ سَك اسمٌ للجُنْدِ والكَلْبِ، وإِنّمَا لَزِمَهُمَا هذان الاسْمَانِ واشْتَرَكَا فِيهِمَا، لأَنّ أَفْعَالَهُمَا الحِرَاسَةُ، فالكَلْبُ يُسَمَّى في لُغَةٍ: سَك، وفي لُغَةٍ: أَسْبَاه، ويُخَفّف، فيُقَالُ: اسْبَهْ، فعَلَى هذا جَمَعُوا هذَيْن الاسْمَيْنِ، وسَمَّوْا بهما بَلَدَيْنِ كانَا مَعْدِنَ الجُنْدِ الأَسَاوِرَةِ، فقالُوا لأَصْبَهَانَ: أَسْبَاهَان، ولِسِجِسْتَانَ سِكَان، وسِكِسْتَان.
  قُلْتُ: وهذا الَّذي نَقَلَه أَنّ أَسْبَاهَ: اسْمٌ لِلْكَلْبِ، وأَنَّ سَكْ اسْمٌ للجُنْدِ لَيْسَ ذلكَ مَشْهُوراً في لُغَتِهم الأَصْلِيّة، كمَا راجَعْتُه في البُرْهَانِ القاطِع للتِّبْرِيزِيّ، الَّذِي هو في اللُّغةِ عِنْدَهم كالقامُوسِ عندَنا، فلمْ أَجِدْ فيهِ هذا الإِطْلاق،
(١) ضبطت بالقلم في معجم البلدان بالفتح.
(٢) زيادة عن معجم البلدان.
(٣) بهامش المطبوعة المصرية: «الذي في المتن المطبوع، وترجمه عاصم: كنند بنونين، قاله نصر، كذا بهامش المطبوعة» يعني طبعة التاج ذات الخمسة أجزاء.