تاج العروس من جواهر القاموس،

مرتضى الزبيدي (المتوفى: 1205 هـ)

[فلت]:

صفحة 101 - الجزء 3

  وَيَوْمَ مَوْتِهِ بالفَلْتَةِ في وقوع الشَّرِّ من ارتدادِ العَرَبِ، وتَوَقُّفِ⁣(⁣١) الأَنْصَارِ عن الطَّاعَةِ، ومَنْعِ مَنْ مَنَعَ الزَّكَاةَ، والجَرْيِ على عَادَةِ العَرَبِ في أَن لا يَسُودَ القبيلَةَ إِلّا رَجُلٌ مِنْهَا.

  ونَقَل ابنُ سِيدَه عن أَبي عُبيدٍ: أَراد: فَجْأَةً، وكَانَتْ كذلك، لأَنَّها⁣(⁣٢) لم تُنْتَظَرْ بها العَوامُّ إِنما ابْتَدَرَهَا أَكابِرُ أَصحاب رسولِ الله من المُهَاجِرِينَ وعامَّةِ الأَنْصارِ إِلّا تِلْكَ الطَّيْرَةَ⁣(⁣٣) التي كانَتْ من بَعْضِهِمْ، ثم أَصْفَقَ⁣(⁣٤) الكُلُّ له بمَعْرِفَتِهِم أَنْ لَيْسَ لأَبِي بَكْرٍ ¥ مُنازِعٌ ولا شَرِيكٌ في الفضلِ، ولم يكن يُحْتَاجُ في أَمْرِه إِلى نَظَر ولا مُشاوَرَةٍ.

  وقال الأَزْهَرِيُّ: إِنما معنى فَلْتَة: البَغْتَةُ، قال: وإِنما عُوجِلَ بِها مُبَادَرَةً لانْتِشارِ الأَمْرِ حتى لا يَطمَعَ فيها من ليسَ لها بِمَوْضِعٍ.

  وقال ابنُ الأَثِيرِ: أَرادَ بالفَلْتَة الفَجْأَةَ، ومِثْلُ هذِهِ البيعةِ جَدِيرةٌ بأَن تكون مُهَيِّجَةً للشَّرِّ والْفِتْنَةِ، فعَصَم اللهُ تعالى من ذلك، وَوَقَى، قالَ: والفَلْتَةُ: كُلُّ شَيْءٍ فُعِلَ من غَيْرِ رَوِيَّةٍ، وإِنما بُودِرَ بها خَوْفَ انْتِشَارِ الأَمرِ.

  وقيل: أَرادَ بالفَلْتَةِ الخَلْسَةَ، أَي أَنّ الإِمَامَةَ⁣(⁣٥) يومَ السَّقِيفَةِ مَالَت الأَنْفُسُ إِلى تَوَلِّيهَا، ولذلك كَثُرَ فيها التَّشَاجُرُ، فما قُلِّدَهَا أَبُو بَكْر إِلّا انْتِزَاعاً من الأَيْدِي، واخْتِلاساً، كما في لسانِ العرب، ومثله في الفائِقِ، والمُحْكَم، وغيرها، ووجدت في بعض المَجَاميع: قال عليُّ بنُ الإِسْرَاج: كان في جِوَارِي جَارٌ يُتَّهَمُ بالتَّشَيُّعِ، وما بانَ ذلك منه في حالٍ من الحالاتِ إِلا في هِجاءِ امرأَتِهِ، فإِنه قال في تَطْلِيقها:

  ما كُنْتِ من شَكْلِي ولا كُنْتُ مِنْ ... شَكْلِكِ يا طَالِقَةُ الْبَتَّهْ

  غَلطْتُ في أَمْرِكِ أُغْلُوطَةً ... فأَذْكَرَتْنِي بَيْعَةَ الفَلْتَهْ

  وأَفْلَتَنِي الشَّيْءُ وَتَفَلَّتَ مِنِّي.

  وأَفْلَتَ الشَّيْءُ وانْفَلَتَ بمَعْنًى واحدٍ.

  وأَفْلَتَهُ غَيْرُه: خَلَّصَهُ، وفي الحَدِيثِ «تَدَارَسُوا القُرْآنَ فَلَهُوَ أَشَدُّ تَفَلُّتاً من الإِبِلِ من عُقُلِها» التَّفَلُّتُ والانْفِلاتُ والإِفْلاتُ: التَّخَلُّصُ من الشَّيْءِ فَجْأَةً مِنْ غَيْر تَمَكُّث، وفي الحِديثِ «أَنَّ رَجُلاً شَرِبَ خَمْراً فَسَكِرَ فَانْطُلِقَ بِهِ إِلى النَّبِيّ ، فلمّا حَاذَى دارَ العبَّاسِ انْفَلَتَ، فدَخَلَ عليه، فَذَكَرَ ذلِك له، فضَحِكَ، وقَالَ: أَفَعلَهَا؟ ولم يَأْمُرْ فيه بشَيْءٍ وفي حديث آخر «فَأَنَا آخُذُ بِحُجَزِكُمْ وأَنْتُمْ تَفَلَّتُونَ من يَدي» أَي تَتَفَلَّتُونَ، فحُذِفت إِحدى التَّاءَين تخْفِيفاً.

  ويقال: أَفْلَتَ فلانٌ جُرَيْعَةَ الذَّقَنِ⁣(⁣٦) يُضْرَبُ مَثَلاً للرَّجُلِ يُشْرِفُ على هَلَكَةٍ ثم يُفْلِتُ، كَأَنَّهُ جَرَعَ الموْتَ جَرْعاً ثم أَفْلَتَ مِنْه.

  والإِفْلاتُ يكونُ بِمَعْنَى الانْفِلاتِ لازِماً، وقد يكون واقِعاً⁣(⁣٧)، يقال: أَفْلَتُّهُ من الهَلَكَةِ، أَي خَلَّصْتُه، وأَنْشَدَ ابنُ السِّكِّيتِ:

  وأَفْلَتَنِي مِنْهَا حِمَارِي وجُبَّتِي ... جَزَى اللهُ خَيْراً جُبَّتِي وحِمَارِيَا

  وعن أَبي زَيْد: من أَمثَالِهِمْ في إِفْلاتِ الجَبانِ، «أَفْلَتَنِي جُرَيْعَةَ الذَّقَنِ» إِذا كَانَ قَرِيباً كقُرْبِ الجُرْعَةِ من الذَّقَنِ، ثم أَفْلَتَهُ، قال أَبو مَنْصُور: معنى أَفْلَتَنِي، أَي انْفَلَتَ مِنّي، وقيل: معنَاه أَفْلَتَ جَرِيضاً، قال مُهلهِل:

  منّا عَلَى وَائِلٍ وأَفْلَتَنَا ... يَوْماً عَدِيٌّ جُرَيْعةَ الذَّقَنِ

  وسيأْتي البَحْثُ في ذلك في ج ر ض.

  وعن ابن شُمَيْل: أَفلَتَ فلانٌ من فلان، وانْفَلَتَ، ومَرَّ بنا بعِيرٌ مُنْفَلِتٌ ولا يُقَالُ مُفْلِتٌ، وفي الحَدِيثِ عن أَبي مُوسى


(١) النهاية: وتخلّف.

(٢) في غريب الهروي: لأنه لم ينتظر بها العوام.

(٣) بهامش المطبوعة المصرية: «قوله الطيرة كذا بخطه وهي الخفة والطيش كما في القاموس».

(٤) عن اللسان، وبالأصل «لصق» وعبارة الهروي: «ثم أصفقوا له كلهم لمعرفتهم.

(٥) في الفائق: الإمارة.

(٦) بهامش المطبوعة المصرية: «قوله ويقال ... الخ. قال المجد: أفلت فلان جريعة الذقن أو بجريعة الذقن أو بجريعائها وهي كناية عما بقى من روحه، أي نفسه صارت في فيه أو قريباً منه» وفي التهذيب واللسان «بجريعة الذقن».

(٧) واقعاً أي متعدياً.